القائمة الرئيسية

الصفحات

مـــراد الثالث: مراد بو بالة

مـــراد الثالث: مراد بو بالة


الباي مراد الثالث "بو بالة"

 

بعد القضاء على الأسبان وطردهم وإنهاء الحكم الحفصي من قبل القوى العثمانية خضعت تونس لسيطرتهم وأصبحت إيالة عثمانية وحكموا البلاد عن طريق الباشا إلى جانبه الداي، ثم جاء حكم البايات وأخيرا الحكم الحسيني الذي تأسس سنوات قليلة على أنقاض الدولة المرادية.

وقد دام الدولة المرادية أكثر من سبعين سنة توارثوا خلالها حكم الإيالة عن طريق حكم الدايات انطلاقا من سنة 1628 إلى سنة 1702 وانتهى بمقتل آخر باياتها مراد الثالث المعروف "بمراد بو بالة".


كيف تأسّـست الدولة المـرادية؟

فمن هو مراد الثالث؟ وما قصتّـه؟

ولماذا سميّ بذلك الإسم؟

 

 

بداية تأسيس الدولة المرادية

مؤسس الدولة المرادية هو موراتو كورسو ذو الأصول الكورسيكية والذي أسر في سنّ صغيرة جدا وبِـيعَ كعبدٍ لرمضان باي ممثّـل السلطة العثمانية بتونس، أحبّه ورعاه واعتنى به وسمّاه باسم مراد ليضمّه فيما بعد إلى الجيش الإنكشاري آنذاك ثمّ زوّجه إحدى بناته.

وُلّـيَ الحكم سنة 1613 بتعيينه بايًا للإيالة وأصبح يقوم بحملات عسكرية لنشر الأمن وجمع الجباية، ممّا ساعده على ربط علاقاته وتوطيد صلته بالأعيان المحليين ورؤساء القبائل هناك وكسب ثقتهم وحبّهم، كما كوّن ثروة كبيرة من عمليات القرصنة في البحر الابيض المتوسط.

كان مراد أول بايات تونس واستمرّ حكمه حتّى وفاه الأجل في سنة 1931 للميلاد، وقبل وفاته بمدّة قام السلطان العثماني سليمان بمنحه لقب الباشا إلى جانب لقب الباي وبذلك حُـقًّ له توريث الملك لأبنه الوحيد محمد الأول الذي اشتهر أكثر باسم بحمودة باشا.

عرفت البلاد ازدهارا كبيرا في عهده (حمودة باشا) لحنكته في تسيير شؤون البلاد من بناءه لعديد المنشآت الخالدة - مثل دار الباي والمدرسة المرادية وغيرها - من الإنجازات الهامة وقد تجاوز عهد الثلاثين عاما، فكان أطول البايات بقاءً في السلطة ليخلفه فيما بعد ابنه مراد باي الثاني ويصبح بذلك ثالث البايات المراديين بتونس لكنّه لم يُـعمّر طويلا حيث اغتاله آغا الصبايحية إبراهيم الشّريف بمسدس سنة 1675 للميلاد.

كان مقتل مراد باي حدثا مفصليا في الدولة المرادية التي عرفت حرب خلافة بين أبنائه الثلاثة وخاصة بين الأخوين محمد باي الثاني وعلي باي الأول فتخاصموا على الحكم ومن أحقّ بخلافة أبيه وقد شارك في هذه الحرب عمهم محمد الحفصي باشا.

تحوّل صراعهما على الحكم إلى حرب أهلية دامية دامت لسنوات طويلة بين كرّ وفرّ وهزيمة ونصر وبوساطة من داي الجزائر تَـقرّرَ اقتسام السلطة وإعلان هدنة سرعان ما وقع خرقها ليعود التوتّر من جديد وينتهي باغتيال علي باي على يد أخيه وبمساعدة من عمه الحفصي سنة 1688 للميلاد.

وللإشارة تولّـى محمد باي الحكم على ثلاث فترات نظرا لاقتسامه السلطة مع أخيه المغدور وتبنّى ابنه مراد الثالث بعد مقتل أبيه، واعتلى العرش المرادي ومن بعده أخوه رمضان باي الذي كفل مراد - الذي كان يكبر يوما بعد يوم وصار شابا طويل القامة، متين البنية كامل الفروسية.

 

مراد الثالث قبل الحكم

ولد مراد الثالث سنة 1680 ميلادي والمكنّى بأبي الظفر مراد الثالث بن علي باي - ثامن بايات الدولة المرادية وآخر ملوك تلك السلالة- اعتلى عرش تونس في نهاية القرن السابع عشر فحكم البلاد في الفترة الممتدة بين (1698-1702) وقتله إبراهيم الشريف الذي سبق وأن اغتال أبيه.

كفله عمه محمد باي (قاتل أبيه الذي حاربه على الحكم) ثم من بعده عمه رمضان باي فترعرع في قصره إلى أن بلغ السابعة عشر من عمره فكثُـر الحديث بين النّاس عن أحقـيّة مراد بالحكم من عمه الذي كان مكروها لإهماله لأحوال الرعيّة خلفًا لأبيه علي باي لما جرت به العادة من توريث الملك للأبناء لا للأخوة.

بلغ الكلام مسامع رمضان باي فخشيَ عن ملكه من ابن أخيه وبات مهموما يفكّـر في كيفية التخلص منه دون أن يؤثـّر ذلك على حكمه خاصة وأنّ مراد بايعه مع النّاس فجمع حاشيته وأبلغهم مخاوفه، فاقترحوا عليه وضعه في الإقامة الجبريّة وظل هناك مدة من الزمن لكنه حاول الفرار لكن سرعان ما أُمْسِكَ به وأُعيد إلى إقامته مع تشديد الرقابة.

بمحاولة الهروب تلك، تأكدت شكوك رمضان باي حول نيّة ابن أخيه الإطاحة بحكمه فجمع ديوانه من جديد وطالبهم بإيجاد حلّ قطعي لهذه المشكلة فمنهم من أشار بقتله قائلين:

لن يهنأ سيدنا بتونس وابن أخيه مراد حي

ومنهم من أشار بسجنه سجنا مؤبدا وضلّ الباي متردّدا بين ذاك وذاك حتّى جاء الحلّ من نديمه مزهود - ذاك الخبيث الداهية - واقترح عليه سَـمْلَ عيني مراد عندها فقط لن يتجرّأ على العصيان ولن يفكّر مطلقا في السّلطة وهو أعمى.

ولم يعلم مزهود بأنّ اقتراحه سيكون بداية انهيار الحكم المرادي وذلك بتحويل مراد الثالث من أمير طيب إلى شخص متوحش وطاغية يستمتع بأكل لحوم البشر، أُعجِب الحاكم بهذه الفكرة فألقى بمراد في غياهب السجن بتهمة التآمر عليه ثمّ قام بتكحيل عينيه وتعذيبه، أحسّ رمضان باي بالراحة وظنّ أنّه تخلـّص من غريمه ولم يعد هنالك داعٍ للخوف أو بما يعكـّر صفو ملكه فالتفت إلى مسرّاته ومجونه يتسامر مع الجواري والغلمان وأهمل دواليب الحكم فاستقلّ بها مزهود الذي كان يصدر الأوامر بدلاً عنه.

 

نهاية ولاية رمضان باي

توالت الأيام والأمير الشاب محبوسا في دار بمدينة سوسة واُنقطعت أخباره عن النّاس لشهور يعاني من وجع الغدر والحرمان والظلم والقهر، وكانت فكرة الانتقام من عمّه ترسخ في ذهنه المشوّش يوما بعد يوم إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان فهاهي عيناه تتعافى شيئا فشيئا وبصيص الأمل يلوح له من جديد فلم يُـصبْ بالعمى وأخفى الأمر عن عَسَسِ عمّه خشية قتله وبات يفكرّ في الهروب من السّجن.

جاءته المساندة من عدد من حرّاس السّجن فتعاطفوا معه وساعدوه على الفرار، ففرّ في ظلمة الليل - صحبة مجموعة من المتمردين - في اتجاه مدينة القيروان تاركا خلفه ماضٍ مليء بالظلم والقهر، وطلب من أهل وسلات بأن يُوالوه مستغلا كرههم الدفين لعمه سيئ السّمعة.

 رحبّ أهل المدينة بقدوم الأمير المغدور - الذي استعاد حريته وأصبح طليقا - ووعدوه بمساندته وإيصاله إلى العرش المرادي ورفضوا تسليمه إلى عمّه بعد ما علم بهروبه، هذا العصيان دفع رمضان باي إلى إعلان الحرب فقرّر القيام بحملة عسكرية على جبل وسلات بغية القضاء على مراد الثالث الذي بات يهدّد ملكه من جديد، لكنّ الأمور لم تسرْ كما يريد وباتت أوامره غير فعّـالة فقد تخلت عنه أغلب عناصر الجيش التي عصَتْ أوامره وصارت في صفّ مراد.

بات رمضان باي وحيدا ودون سند ولم يبقى معه سوى قلـّة قليلة من المناصرين وخوفا من بطش ابن أخيه قرّر الهروب نحو سوسة وركوب البحر حتّى تهدأ الأمور، فتسلّل تحت ظلمة الليل الدامس مع مزهود فاعترض طريقه الأهالي وثاروا عليه ولم ينجو منهم إلا بشقّ الأنفس بينما وقع مستشاره بين أيديهم فضربوه وكبّلوه ثمّ سجنوه حتّى ينظر مراد في أمره.

كان مراد الثالث يتحرّك بدافع الانتقام وهدفه الوحيد بعد وصوله للسلطة هو القضاء على أعدائه وخاصة أولئك الذين تسبّبوا في تعذيبه فجاءت الروايات متنوعة فمنها من تقول بطرد عمّه من قصر باردو، وآخرون يقولون بأنّه قام بخنقه بيديه.

لكن الرواية الأقرب هي أنّ الأهالي الثائرين والناقمين على سياسة رمضان باي تمكنّوا من الإطاحة به والقبض عليه في زاوية سيدي بوراوي بسوسة حيث كان يختبأ فخنقوه وقطعوا رأسه ودفنوه بالقلعة هناك. وتجدر الإشارة إلى أنّ حكمه ( أي رمضان باي) لم يدم سوى بضعة أعوام لم تتجاوز الثلاث سنوات فقط، فقد تولى الحكم في الفترة الممتدة من 1695 إلى 1698، لكنّ انصرافه للهو والسهر جلب نهايته.

 

اعتلاء مـــــــراد العرش المرادي

رغم علمه بقطع رأس عمّه، لم يقتنع مراد بذلك ولم يُشفي غليله، فأمر الحرّاس بإخراجه (الرأس المقطوع من تحت التراب) وإرساله إلى تونس ويطوفوا به في أسواق المدينة حتّى يعلم النّاس بنهاية حكمه وأنّه أخذ بثأره منه، بعد ذلك توجّه إلى تونس وقام بعزل الداي محمّد خوجا وتعويضه بمحمد آغا الصبايحي ليساعده على الوصول إلى سدّة الحكم.

بايعه النّاس وكان عمره 18 سنة فأصبح بايًا جديدا لتونس بعد ما اشتكى لهم عن ظلم عمّه له فتوسّموا فيه خيرا كثيرا وظنّوا أنّه أفضل من عمّه الماجن خاصة وأنّ بداية حكمه كانت رائعة وتتسّم بالعدل والإنصاف ممّا جعلهم يطمئنون إليه، لكن بعد تمكـّنه من الحكم أخذت تصرّفاته تتسّم بالقسوة والظلم، قسوة شديدة لحد الوحشية جعلت التونسيين يطلقون عليه لقب مراد بو بالة (والبالة هي السيف التركي العريض) تاركًا خلفه بصمة مرعبة في تاريخ تونس.

 

مـراد بو بالة

اُنغمس مراد الثالث في التسالي وشرب الخمر فجاهر بالمعاصي ولم يكتفي بذلك فارتكب جرائم مفزعة لا يستطيع العقل البشري استيعابها من نهب للمدن التونسية وتقتيل للنّاس بغير حقّ علنـًا في الشوارع صارخا:

البالة جاعت... الباله جاعت

ساد الخوف بين الأهالي وصُدموا لما رأوه من أفعال فاقت التصوّر البشري ولم يعلموا سبب هذه التصرفات الشنيعة حتى صار مجرّد ذكر اسمه يثير الرعب في النفوس وتهامسوا فيما بينهم ما إذا كانت حادثة تكحيل عينيه من طرف عمّه الماجن سببا لوحشيتّه وتعطّـشه الدائم للدماء فقد قرّر هذا الأمير المجنون أن يُـنذر حياته للانتقام من عمّه وحاشيته من رجال الدين والعلماء وقادة العسكر.

وجاءت لحظة الإنتقام، فقام بجمع أكابر دولة عمّه ومن بينهم مزهود - عدوّه اللدود والمتسبّب في تكحيل عينه - ثمّ أمر بنبش قبر عمّه مرة أخرى وإخراج رأسه المقطوع والمتعفّن وألزمهم بأن يتـلقـفوه بين أيديهم وهم يغنّون مثلما كانوا يغنّون لعمّه في حياته.

لم يكفه هذا الفعل بل قام بتعذيبهم والتنكيل بهم بوحشيّة، أمر بتكحيل أعينهم بالنّار كما فعلوا له، واُستمتع بتقطيع لحومهم بسيفه "بالة" وهم مقيدون في الأغلال ثمّ رماهم في السّجن حتّى جاء يوم العيد قطع رؤوسهم وأرسلها إلى ذويهم وطالبهم بفدية وجمع منهم أموالا طائلة.

عاث في البلاد فسادا وواصل في ترويع النّاس في كامل أرجاءها، فأخذ يتنقـّـل هنا وهناك بين مدن غار الملح وبنزرت يرمي النّاس بالرصاص وألقى القبض على مفتي المالكية أبو عبد الله محمد العواني القيرواني - من نسب إبراهيم شريف - فقتله ثم أكل هو وخاصتّه من الرجال من لحمه مشويًّا.

ضاعت الحقوق في البلاد فالنّاس يخشون الوقوف أمامه ووجدوا أنفسهم أمام ظالمٍ لم يعرفوا له مثيلاً يجهلون مصيرهم ويتمنوّن التخلص منه ومن جنونه بعد أن ضيّق عليهم الخنّاق وأوشكت البلاد على للهلاك لتعطّل الأحكام فيها، لم يكن بو بالة يهتم بشؤون رعيتّه بل وجد في قتلهم متعة كبيرة وصورة عمّه بين عينيه لا تفارقه. فقرّر الذهاب إلى سوسة حيث قُـتل عمّه وأوقد نارا عظيمة ثمّ أمر بإخراج جثة عمه من القبر وحرقها في النّار حتّى أصبح رمادًا أمر جنوده بجمعه (رماد عمه) ورماه في البحر حتّى لا يُـعرف له قبر.

 

استهـداف الجـزائر

بلغت أفعاله المشينة وجرائمه البشعة جارته الجزائر، فاستاءوا منه فحاول مراد تحسين سمعته عندهم متعللا بأنّه كان يتحرّك نتيجة الظلم الذي تلقاه في عهد عمه فأرسل إليهم بهدية فردّوها عليه احتجاجا على الضرر الذي ألحقه بالرعيّة، فأغضب هذا التصرّف مراد - السّاعي جاهدا إلى تحسين العلاقات بين تونس والجزائر - فحشد الحشود وقرّر القيام بحملة عسكرية على المدائن الخاضعة لحكمها.

واتجه بداية نحو باجة، فلمّا علم سكّان المدينة بقدومه فرّوا منها خوفا من بطشه، ولم يبقى فيها سوى الدوّاب والماشية فأمر برميها بالرصاص انتقامًا منهم، ثمّ ركب الرِّحال نحو الجريد فحاصرها لأنّ أهلها أعلنوا العصيان، فأغلقوا في وجهه الأبواب، وعندما منحهم الأمان وآمنوا شرّه غدر بهم وطالبهم بأموال عظيمة مقابل حياتهم وكتن من بينهم إمام الجامع العظيم أبو العبّاس الرّماح والشيخ الحسن الغرياني.

علم مراد بأنّ الجزائر مضطلعة في قتل والده، فزادت نقمته عليهم وعقد الديوان وحشد العساكر وأعلن الحرب على الجزائر ليستولي على مدينة قسنطينة في الجزائر سنة 1701 بعد أن حاصرها وهدم قلعتها وذبّح أهلها بمساعدة خليل باي حاكم طرابلس، لكنّ فرحة الإنتصار لم تدم طويلا فجاءت الجيوش الجزائرية لإنقاذ أهل المدينة واسترجاعها ممّا دفع مراد وحليفه خليل إلى الفرار والعودة إلى تونس مهزومًا.

عند عودته إلى تونس مرّ بمدينة القيروان التي خرجت عن طاعته، فقتل رجالها وسبى نساءها وهدم المدينة الإسلامية التاريخية كاملة عدا المساجد والزوايا، لم يستسغ مراد هزيمته في حربه مع الجزائر وأراد غزوها مرة ثانية فطلب المساندة العسكرية من إسطنبول لقلّـة جنده لكنّه قُـوبِل بالرفض وألزمه السلطان العثماني بالصلح وعقد الهدنة.

 

نهاية مراد بو باله

رفض مراد الصلح وتمرّد على السلطة المركزية في إسطنبول وأصرّ على غزو الجزائر رغم معارضة الديوان، فتوجّه بجيشه لمحاربة الداي الجزائري أين التقى الجيشان في واد الزرقة في منطقة قريبة من مدينة باجة فأصابته رصاصة إبراهيم الشريف وقُـطِع رأسه وتوفيّ مراد عن سنّ يناهز 22 سنة بأمر من السلطان العثماني مصطفى الثاني عقابًا على عصيانه.

ثمّ أُرسِلت الجيوش إلى تونس فقتلوا بقية أفراد العائلة من الذكور سنة 1703 في مذبحة خلدّها التاريخ وأنهت عهد الدولة المرادية حيث قاموا بقطع رؤوسهم والطواف بها في الأسواق، وبذلك حكم إبراهيم الشريف البلاد إلى سنة 1705 تاريخ قيام الدولة الحسينية.


كانت شخصية مراد بو بالة محورا لأعمال مسرحية ألفّها علي بن عياد والحبيب بولعراس.

هل تعتقد أنّ مراد بو بالة آكل لحوم البشر هو أكثر حكام تونس وحشية؟

 

 

 

هل اعجبك الموضوع :
author-img
الصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

تعليقات

التنقل السريع