الأميـرة عـزيزة عثـمانة
عرفت تونس عدة اضطرابات سياسية نتيجة احتلال الأسبان لأراضيها
لكنّ الحملة العسكرية العثمانية بقيادة سنان باشا سنة 1574 لتحريرها من
الأسبان وطردهم كانت منعرجا جديدا للبلاد ببروز عثمان داي الذي ارتقى في عديد المناسبات حتى أصبح حاكما لتونس.
دخلت الإيالة التونسية
فترة حكمه عهدا جديدا، حيث تغيّر أسلوب حياة السكان خاصة بعد قدوم اللاجئين
المورسكيين الذين جلبوا معهم نمط حياة جديد بإتباعهم لتقنيات زراعية وصناعية جديدة
لم يعهدها السكان الأصليين (مثل صناعة الشاشية) وبذلك ازدهر اقتصاد البلاد مع
تقوية الأسطول البحري لحماية البلاد من الغزوات الأجنبية.
وقد استقر عثمان داي بقصره الذي شيدّه بمدينة تونس العتيقة - الذي سُميَّ فيما بعد باسم "دار عثمان" -عكس بقية الدايات إلى أن وافاه الأجل سنة 1610 ويدفن في تُربة (مقبرة) تحمل اسم حفيدته عزيزة عثمانة.
نشـــأة الأمـــيرة
كما أسلفنا سابقا فعزيزة عثمانة تنتمي إلى
عائلة آل عثمان التي أسّسها الداي
عثمان، فهي أميرة من أصل عثماني وابنة أحمد بن محمد بن عثمان داي - الذي حكم البلاد التونسية خلال الفترة المنقضية ما بين سنتيْ 1593
و1610 ميلادي - ولدت في بدايات القرن السابع عشر وتبيّن الوثائق أنّها توفيت في 1669 أو
بعده بسنة أو سنتين.
كانت تتمتّع بالحسن والجمال والفطنة والذكاء، تتمتّع
بحبّ الجميع لحُسن خُلقها وخلقها وخاصّة أباها الذي كان مُتعلّـقًا بها فكان
يعتبرها درّة بيته، لذلك قام بتنشئتها على تعاليم الشريعة الإسلامية فتلّقت العلوم
الدينية وحفظت القرآن الكريم، ونظرا لمواهبها الاستثنائية تعلّمت الأدب والشعر واطلعت
على تاريخ باقي الحضارات على يد نخبة من الأساتذة المشهورين في ذلك العصر.
نشأتها في أسرة تهتّم بالعلم، جعل من عزيزة عثمانة
من قلائل النساء اللاتي يتمتّعنَ باتساع ثقافتهنّ وسعيهنّ الدءوب على حبّ المعرفة
والعلم، وقد دفعها هذا الشّغف إلى عدم الانسياق خلف إغراءات الطبقة الراقية فتجنّبت
اللّهو وسفاسف الأمور من حفلات ورقص وطرب رغم ترفها وعيشها في القصور.
انتمائها إلى الطبقة الأرستقراطية المالكة لم يمنعها من
أن تكون ربّة بيتٍ متمكنّة ومتدرّبة على أساليب الحياة العائلية، رغم زواجها في
سنّ مبكرة من ضابط سامي في الجيش العثماني في تونس ومن ثقاة والدها يُقال
أنّه أبو القاسم بن محمد بن عثمان داي وفي روايات أخرى مراد باي وهو
زواج مؤسّس نظرا للقرابة التي بينهما من حيث صلة الدم.
رغم الخدم والحشم، كانت تشرف بنفسها على كل أمور
منزلها من زوج وأبناء، فعاشت حياة سعيدة، ولم يُذكر في الأثر عدد الأبناء الذين
أنجبتهم سوى ابنها أحمد الذي كانت له قصة مع مراد الثالث.
نقـطة تحـوّل
ورث الحكم يوسف داي - رابع دايات تونس - الذي رشّحه عثمان داي للحكم واقنع الديوان بانتخابه قائلا:
إذا أردتم الهناء والعافية فقدموا يوسف داي
وحكم البلاد لمدة 27 عاما، وقد كان تأثيره كبيرا على
معمار المدينة العتيقة فشيّد أول مسجد في تونس على طريقة العمارة العثمانية إضافة
إلى بناء الأسواق التي تعنى بصناعة الملابس التقليدية المتنوعة، وبعد موته انتخب الديوان
دايًا جديد أسطا مراد الذي مثّـل حكمه بداية بروز العائلة المرادية
وهي من وترسيخ حُكم الباي المرادي بنهاية النصف الأول من القرن
السابع عشر.
ومن أشهر الشخصيات المرادية التي تداولت على
الحكم نجد حمودة باشا من بعده مراد الثالث الذي اشتهر باسم "مراد
بو باله" - نظرا للانتهاكات والجرائم الدموية الشنيعة التي ارتكبها خلال
فترة حكمه من قتل وذبح وتنكيل بجثث أعداءه، حتّى ابنها "أحمد" لم
يسلم من بطشه فقتله بتاريخ 2 جوان 1699 بطريقة شنيعة ومقزّزة.
تأثرت عزيزة عثمانة تأثرا كثيرا بفقد ابنها الذي
علّقت عليه أحلامًا كبيرة لا سيّما بعد موت جميع أبناءها وزوجها الذين سبقوه، فغلّـف
الحزن قلبها واُلتجأت إلى الله صابرة محتسبة وقصدت بيته الحرام بحرًا وبرًّا -
فكانت فكرة السفر عن طريق البحر خطوة جريئة بالنسبة لامرأة في ذلك العصر - رفقة
خدمها وحشمها حيث وزّعت الهبات على الفقراء والمساكين في تلك الربوع.
بعد أداءها لمناسك الحجّ والعمرة، رجعت إلى تونس وقامت بعتق جميع
عبيدها لعلمها بأهميّة الحريّة وفهمت بأنّ الإنسان لا يكون فاعلاً إلا إذا كان
محرّرا لا تكبّله قيود العبودية، حسب رأيها أنّ الشخص الذي يملك زمام نفسه هو في
حدّ ذاته ثروة.
كان لهذا الفعل المحمود صدًى على المدى البعيد - على ما يناهز القرن ونصف
القرن - فكان لها السّـبْق التاريخي في قضية العبودية التي أُلغيت بمقتضى مرسوم المشير
أحمد الأول الشهير الذي أفضى بإنهاء العبودية في تونس بصفة نهائية بعد تنصيبه
بايًا للبلاد سنة 1837 للميلاد.
مآثرها وأعمالها
منذ سنّ المراهقة،
أظهرت الأميرة الشّابة عزيزة عثمانة ميْلاً للتأمّل وقد حرّضها ذلك على
تكريس كلّ حياتها تقريبا للعبادة وأعمال البرّ والإحسان متمسّكة
بتعاليم ديننا الحنيف بكامل تفاصيلها، وقد مثّل الحجّ والفقد الأسري الذي عاشته - موت زوجها
وأبناءها - حدثين مفصليين في حياتها وهو ما انعكس عليها بالإيجاب فيما بعد، فقرّرت التجرّد من جميع
ممتلكاتها - المتمثلة في أراضي المثاليث الممتدة بين صفاقس والمهدية والتّي
كانت قد وُهْبت لها في صغرها ومن هنا لُـقِبتْ بـ "عثمانة" -
لعلّـها بتصدّقها على الفقراء والمساكين تعوّض تلك الروابط الأسريّة التّي حُرمت منها.
اُتخـذت أميرة تونس هذا القرار - قرار التحبيس
وهي ظاهرة يستعملها البايات كثيرا - بمحض إرادتها وبمقتضى وصيّة مكتوبة فأمرت بوقف
جميع ما كانت تكسبه من أملاك هامة في سبيل المشاريع الخيرية وتخصيصها لفائدة
المستضعفين والمحرومين وإدراكها أنّ الحياة لا تستقيم إلا بالمحبة لذا قرّرت أن تُجنّـد
نفسها لفعل الخير ومساعدة الثكلى والمرضى واليتامى.
فأقامت الكتاتيب لتعليم أبناء الفقراء تعاليم الدين
الإسلامي وإعالة فتيات الطبقة الكادحة بتمكينهنّ من جميع لوازم الجهاز لتسريع
تزويجهنّ، كما كانت تتعهّد بمصاريف ختان اليتامى وأبناء المساكين في المناسبات
الدينية كعاشوراء وشهر رمضان المعظّم (ليلة القدر).
أمّا في الأعياد فكانت تقوم بتوزيع خبز "السماط"
وحلوى "الزلابيا" - وهي حلوى من أصل أندلسي يكثر استعمالها في
شهر رمضان وتُوزّع في المساجد على المحتاجين كصدقة - ولم يقتصر إحسانها وكرمها على
إشباع جوع بطون المساكين بل اُعتنت بصحتهم ومداواتهم (نساءً ورجالاً) وذلك بتوقيف
جملة من العقارات والأملاك وأنشأت مستشفى لمعالجة الأمراض المختلفة (العقلية
والبدنية) وإيواء العجزة والمرضى فيه.
يُـعدّ هذا المستشفى من أقدم مشافي الحاضرة (المدينة) لأنّه يعود للعهد المرادي وسميّ بـ"مارستان العزافين" ويقع بـسوق النّحاس، لكن مع تزايد السكان أمر أحمد الصادق باي بنقله إلى موقعه الحالي - والذي كان جزءا من ثكنة عسكرية هي "قشله البشامقية" بالقصبة - وغُـيّر اسمه إلى "المستشفى الصادقي" لينتهي به المطاف إلى تسميته الحالية "مستشفى عزيزة عثمانة" تخليدا للأميرة المحسنة ليُصبح فيما بعد مستشفى جامعي متكامل.
كانت أحباس هذه السيدة الفاضلة متنوعة جدا فهي فكرت في
مختلف الطبقات الاجتماعية وفي جميع الحالات التي يمكن أن يتعرّض إليها أولئك
البسطاء في تلك الفترة، فقامت بتأسيس فكرة جديدة تتمحور حول التعاطف والتآزر بين
أفراد المجتمع التونسي ونزلت من الطبقة الأرستقراطية والمرموقة التي تنتمي إليها إلى طبقة
المساكين لتتعاطف معهم وتفهم شدّة احتياجهم لموارد رزق تحفظ كرامتهم وتنتشلهم من الفقر.
فترجمت فكرتها إلى أعمال خيرية من خلال تحبيس
أراضي الزيتون للفلاحين جهة مرناق والمرناقية وصفاقس ولم تكتفي بذلك بل شملت أحباسها
البحر فقامت بشراء البحر وتمليكه للبحارة في جزيرة قرقنة ووثقت ذلك عن طريق
عقود، لقد أنقذت وأعالت العديد من الناس بنظرتها الثاقبة والإستشرافية.
لم يقتصر عملها الإنساني على الجانب الاجتماعي
والإقتصادي بل شمل المجال المعماري فاُهتمت بجمالية المحيط من خلال ترميم الزوايا
وإضاءة المساجد، كما عرف عنها بأميرة الرقّة والجمال لحبّها للأزهار بشتّى
أنواعها وللموسيقى خاصة منها المألوف (وهو نمط موسيقي ظهر نتيجة امتزاج الموروث المحلي
بما هو موروث تركي عثماني وخاصة الموروث الأندلسي).
رحيــل أيقـونة تونس
أحسّت بدُنُـوِ موعد رحيلها عن الدنيا فقامت بإنشاء "تُربة" - شبه مقبرة صغيرة للعائلة
الحاكمة - علما وأنّ جدها عثمان داي كان قد دُفن قرب "الولي سيدي
أحمد بنعروس" (وهو وليّ يعود للعهد الحفصي) - وكانت هذه التربة
مفتوحة فقامت بتحويل أحد البيوت الكائنة بزنقة "الشماعية" إلى مقامٍ بعد
أن أضافت قبّة لكل غرفة وزيّنت أعمدتها ببعض الزخارف الهندسية.
كما خصّصت حبسًا وأوصت بعد وفاتها بوضع الزّهور من كلّ
فصل من فصول السنّة على قبرها عند طلوع كل فجر- لكنّ هذا الأمر لم يكن من عادات
مجتمعنا وليست من العادات الإسلامية - وأوصت كذلك بتلاوة القرآن فكان هناك من يتداول أسبوعيا
على قراءة الفاتحة والدعاء لها ولجدها ولجميع أموات تلك التربة.
وفي عام 1669 للميلاد توفيت أميرة الفقراء عن سنّ يناهز
السبعين (70) سنة، فكانت جنازتها مهيبة وحزن على وفاتها شعب بأسره وأحسّ باليُتم
بموتها، لقد ماتت محققة أحلام الطبقات الكادحة والفقيرة، لكنّ أعمالها الخيرية لم تمت وسوف
تخلدّ اسمها في تاريخ تونس.
خاتــمة
للأسف لم يتمّ التأريخ لهذه المرأة الفاضلة والمثقفة، المحسنة والمضحيّة، المرأة الأسطورة بدون شكّ للدور العظيم الذي اضطلعت به في المجتمع، فعكست روح التضحية والبذل والعطاء لدى المرأة التونسية الأصيلة والتي عملت على إسعاد شعبها.
لقد
مات جسد عزيزة عثمانة لكنّ روحها الطاهرة ستبقى خالدة في أذهان من عاصروها
وتاريخًا يُدرّس لأجيال متعاقبة، فطوبى لك يا أميرة الشعب وأيقونته أيقونة تونس
العظيمة.
وإنّـما توفيّـت لتحيا عكـس من كان يحيا ليـموت.
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا لمشاركتنا الرأي وتشجيعنا على الإستمرار.