القائمة الرئيسية

الصفحات


 الممتحنة بنت شقيّ القوم

 

الممتحنة


دائما ما يحثنا ديننا الحنيف – الإسلام - إلى التحلي بالصبر والأمل واستبشار الخير فالله – سبحانه وتعالى - يأمرنا بالتفاؤل وعدم التشاؤم بالرغم من الصعوبات التي تعترضنا، فالحياة هي مجال اختبار لدرجة إيماننا به ومدى صبرنا فثقتنا بالله تجلب لنا الطمأنينة وراحة المال وترسخ في عقولنا بأنّ مفتاح الخلاص والنجاة لا يكون إلا بإتباع طريق الهدى والتمسك بحبال الله التي لا تنقطع وهو ما سوف نتطرق إليه في هذا المقال من خلال سرد وقائع قصة الممتحنة التي أنزل فيها آيات بيِّـنَاتٍ من الذِكرِ الحكيم تُـتلى إلى يوم الدين.

ما سبب نزول سورة الممتحنة وتسميتها؟

وما قصة الممتحنة؟

 

تعريف سورة الممتحنة

سورة الممتحنة سورة مدنية نزلت في السنة السادسة لهجرة النبي صل الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وتعدّ من أعظم سور القرآن الكريم التّي نحتاج للتوقّف عندها والتمعّن في أسباب نزولها وتسميتها، فقد تطرقت السورة إلى عدة مواضيع تضمنت أحكاما اعتنت بالتشريع (تحريم الشرك/ الزنا/ السرقة/ قتل الأولاد) وأخرى تعلقت بالمتعاهدين من المشركين الذين لم يقوموا بقتال المسلمين (صلح الحديبية) وكذلك أحكام تعلقت بوضعية المؤمنات المهاجرات.   

 

سبب نزولها وتسميتها

يعود سبب نزول هذه السورة لعدة أسباب من بينها قصة الصحابي حاطب بن أبي بلتعة مع رسول الله –عليه الصلاة والسلام- عندما كشفوا خيانته بعد إرسال كتابٍ إلى قريش يحذرهم فيه بنية الرسول ومسيره لغزو مكة، لكنّ الرسول الكريم عفا عنه لعلمه بحسن نيتّه.

السبب الآخر الذي يعود إليه سبب نزول هاته السورة العظيمة هو قصة السيدة أم أسماء بنت أبي بكر التي أرادت زيارة أمها المشركة بعد صلح الحديبية والتودد لها فأذن لها الرسول الكريم بأن تصلها بالرغم من شركها.  

وقد سميّت هذه السورة بسورة الامتحان وسورة المودة وكذلك المُـمْتَحَنَة "بفتح الحاء" أو المُـمْتَحِنَة "بكسر الحاء" وُضِعت فيه النسّاء المؤمنات المهاجرات من مكة إلى المدينة المنورة قيد الاختبار عن مدى صدق إيمانهن ولعل أبرزهن زوجة عبد الرحمان بن عوف السيدة أم كلثوم بن معيط.

 

نَـسَبُ أم كلثوم

في هذه القصة سوف نتعرّف من خلالها على فتاة ذات حُسنٍ وجمال وعلمٍ وصلاحٍ رغم تعرضها للعديد من المواقف الصعبة التي ينوء بحملها الرجال، إلا أنّها سرعان ما تلاشت بفضل قوة إيمانها وصبرها، وكما هو معلوم بأنّ الصبر صفة وخلق الأنبياء والرُسل من قبلنا – الذين تعرّضوا للإيذاء والمشقة والتعب- فتحملوا وصبروا واصطبروا حتى جاءهم التمكين من الله وأذن لهم بالفرج.

أمّا نسَبُها فهو أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أميّة بن عبد شمس القرشية الأموية، إذًا فهي امرأة أمويّة قرشيّة، نشأت في أسرة تكنّ العداوة والكره للإسلام ولرسول الله، من قبل إخوتها (عمارة والوليد وخالد) وتحديدا والدها عقبة بن أبي معيط الذي لقّب بـ "شقىّ القوم" لكثرة إيذاءه لنبي الله في عديد المناسبات.

حيث بصق هذا الكافر على وجه رسول الله، وخنقه برٍدائه حين كان يُصلّي حتّى أُغمِيَ عليه ولم يكتفي بذلك بل ألقى عليه سَـلَى الجزور (أي أمعاء الشّاة وفضلاتها) بينما هو ساجد - بأبي أنتَ وأمي يا رسول الله- فلم يرفع من سجوده حتى جاءت فاطمة - وكانت جُويرة صغيرة - فأزاحته ولمّا انتهى من صلاته دعا عليه علنا فقتل في غزوة بدر (أولى حروب المسلمين ضدّ قريش لتحرير مكة ونشر الإسلام).

وبالرغم من ضَلالِ عقبة بن مُعيط  إلاّ أنّ الله شرح صدر ابنته أم كلثوم للإسلام وجعل من صُلبه من يوحّد الله ويُؤمن برسالة محمّد - عليه الصلاة والسّلام - وآمنت دون رجال بيتها لكنّها أخفت إيمانها عن أبيها وإخوتها خشية البطش بها فبقيت في بيت أبيها.

وقد كانت أم كلثوم آنذاك فتاة صغيرة تميّز بالذكاء والفطنة مُحبّةً للعلم فكانت من قلائل النساء اللاتي يهتممن بالعلم في مكة، تتفكّر سرّا في دعوة النبي – صلى الله عليه وسلّم – وتُقارن بين الأصنام التي صنعها النّاس بأيديهم من عَـجْوةٍ وحَجر، فوجدتها غير نافعة ولا تصلح بأن تكون آلهة تُـعبد، فالفرق بينها وبين خالق الكون بَـيِّنٌ وشاسع إلى أن هداها تفكيرها إلى عبادة الإله الواحد الأحد واستقرّ الإيمان قلبها لتزداد يقينًا بالإسلام وعظمته وتُسلم سرّا وتٌبايع النبيّ الكريم قبل هجرته إلى المدينة المنورة.

 

خطة الهجرة إلى المدينة

ومرّت الأيّام وكبُرت أم كلثوم ولم تتجاوز السابعة عشر وازدادت جمالا فتقدّم لخطبتها أشراف شباب مكة وأغنى أغنياءها، فكانت ترفض الزواج بحجّة حزنها عن أبيها عقبة بن مُعيط لكنّ حقيقة الأمر أنّ دينها الجديد يمنعها من ذلك ويحرمها من متعة مصاحبة الرسول الكريم، فكانت تعبد الله من بين مئات الكفار تقبض عن دينها كقبضها على الجمر.

كان وقع الهزيمة على قريش في حربهم مع المسلمين كبيرا، فزاد ذلك من حقدهم على المؤمنين خاصة إخوتها الذين شهدوا مقتل أبيهم أمام أعينهم ممّا دفع أم كلثوم إلى أخذ الحيطة أكثر من ذي قبل وكَـتْم إيمانها مُلتزمة الصمت لكي لا يُفضح أمر إسلامها، فصبرت وفوّضت أمرها لله إلى أن جاء صُلْح الحدَيبية ليغيّر كلّ الموازين فاُسودّت الدنيا في وجهها وبكت بكاءً مريرا وظنّت لوهلة أنّ الهجرة إلى المدينة بات حلما مستحيلا، كيف لا تبكي التّي اشترط فيه سادة قريش على النبيّ - عليه الصلاة والسّلام - أن يرّد كلّ من يأتيه من مكة إلى المدينة مسلما.

واشتدّ الخناق على أم كلثوم لكنّ إيمانها وقوّة إرادتها دفعاها إلى هزيمة اليأس والتغلب عن خوفها واٌستبشرت خيرا لذلك اُعتزمت الهجرة رغم معرفتها المسبّقة بأنّها قد تهلك في الطريق وأنّ النبيّ سيُعيدها من حيث أتت إيفاءً بمقتضيات الصُلح مع قريش وسوف يقتلها أهلها إذا عادت إلى مكة.

تتالت الأيام وتواترت الليالي وفكرة اللحاق بركب المسلمين صارت هاجسا رغم علمها بمخاطر الطريق ومشقته وإمكانية موتها على أيدي إخوتها وظلت تفكّر في حيلة تمكنّها من الفرار إلى المدينة إلى أن خطرت ببالها فكرة عبقرية. وكانت هذه الفكرة بمثابة طوق النجاة والفرار بدينها وتُصاحب الرسول وتعبّد الله علنًا وبدون خوف، على بُعد خمس كيلومترات عن مكة كانت هناك أرض بالصحراء تعود لأهلها فأخذت الإذن من إخوتها بالذهاب هناك لتُقيم فيها أيام معدودات وتكرّر ذهابها حتّى تعوّد إخوتها عن الأمر ولم يُنكروه إلى أن جاء اليوم الموعود - قرار الهجرة إلى المدينة - فتوجهّت قاصدة البادية أين أرضهم بالصحراء كعادتها ومن هناك اعتزمت الرحيل.

 

الهجـرة إلى المدينة

فتاة شابّة ويافعة، حسناء شجاعة لم تتجاوز السابعة عشر من عمرها تٌـفارق خِدرها تحت جنح الليل، وحيدة شريدة، تطوي ثنايا الجبال بقدماها، تفرّ بدينها إلى دار الهجرة، إلى مقام رسول الله، تاركة خلفها أهلها في ظلالهم يعمهون، غير آبهة بوعورة الطرقات وتشعبّها وطول المسافة.

فتاة مضحيّة أرادت الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة تفرّ بدينها لتلحق بركب المسلمين ولو مشيًا يقودها حبّها للإسلام وتعلّـق قلبها بالله ورسوله فأرسل إليها الله شخصا ذا مروءة وخُلق (من قبيلة خُزاعة من حلفاء النبي) رافقها وقاد بها البعير دون أن يكلمّا أو ينظر إليها إلى أن وصلت المدينة سالمة.

وصلت المهاجرة إلى المدينة وتوجّهت إلى بيت النبّوة أم سَلَمَة (زوجة الرسول وأم المؤمنين) فتعارفتا، ولمّا دخل الرسول الكريم على أم سَلَمَة أخبرته بقصة أم كلثوم وأبلغته مخاوفها من العودة إلى أهلها فحار في أمرها، فالمروءة والأخلاق لا يسمحان بإرجاعها وهي التّي جاءت لاجئة إليه قاطعة الفيافيَ والأودية لكنّ العهد يُلزمه بإرجاعها، فخاطبته أم كلثوم كلمات سوف تظل نورًا يُضئ الطريق لكل فتاة تؤمن بربها:

يَا رَسُولَ اللّهِ، إنّي فَرَرْت بِدِينِي إلَيْك، فَامْنَعْنِي وَلا تَرُدّنِي إلَيْهِمْ يَفْتِنُونِي وَيُعَذّبُونِي، فَلا صَبْرَ لِي عَلَى الْعَذَابِ، إنّمَا أَنَا امْرَأَةٌ، وَضَعْفُ النّسَاءِ إلَى مَا تَعْرِفُ.

اُشتعلت المدينة كلامًا، فكل الصحابة يرفضون إرجاعها والرسول صامت لا يتكلم فرفع الأمر إلى الله، وعندما علم أهلها بأمر أم كلثوم تذكّروا شروط صلح الحديبية فقالوا:

لا ضَيْرَ، بيننا وبين محمد عهدٌ وصلْح وليس أحدٌ من النّاس بأوفى من محمّد، نذهب إليه ونسأله أن يفي بعهدنا.

وخرج إخوتها قاصدين المدينة ليستعيدوا أختهم، ولمّا وصلوا نزل جبريل بالوحي في أمر أم كلثوم بآيات من الذّكر الحكيم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّار

أوحِيَ للرسول - صلى الله عليه وسلّم - عن صدق إيمان المرأة وصلابة يقينها برحمة الله وأنّها لم تهاجر إلى المدينة إلا حبّا في الله ورسوله، فنزلت الآيات من فوق سبع سماوات حاسمة تأمر الرسول بعدم عودة أم كلثوم إلى مكة وبقاءها بالمدينة وبذلك كانت سببا استثناء النساء من هذا الشرط المجحف والظالم، فكانت هجرتُها خيرًا وبركة على نفسها وعلى المُهاجرات من بعدها وقدوة للفتيات المسلمات اللاتي أتين مِن بعدها، حيث صارت أي امرأة تؤمن بالله ورسوله لا تخشى أن يُعيدها النبيّ إلى الكفار بسبب المعاهدة فتوالت وفود النساء اللاتي أسلمن، تاركاتٍ مكة ومهاجرات إلى المدينة فرارًا بدينهنّ من أذى الكفار.

استقرت الممتحنة بالمدينة المنورة وتزوجت عديد المرات وأنجبت وكان أولهم الصحابي زيد بن حارثة - - الذي اُستشهد في غزوة مؤتة - ثمّ الزبير بن العوّام - الذي طلّقها فيما بعد - ليُكرمها الله بالصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف - الذي يُـعَد من أغنى أغنياء المدينة وأحد العشرة المبشرين بالجنّة - وبعد موته تزّوجت من عمرو بن العاص، لكنها لم تُعمّر طويلا فماتت بعد زواجها منه بشهر، وكانت أيضا من رواة الحديث فنقلت أحاديث عن رسول الله.

 

الخلاصة

سلّط ديننا الحنيف في سورة الممتحنة الضوء على المكانة المرموقة التي صارت تتمتّع بها المرأة والاهتمام بها من خلال قصة أم كلثوم - أولى المهاجرات إلى المدينة بعد النبي وأصحابه - ليكافئها الله عن صبرها ونصرتها للإسلام بتنزيل آيات بيّنات تخلّد ذكرها إلى يوم القيامة، وتصبح مثالا يُـحتذى به في التضحية والجهاد في سبيل الله بعد ما أُمْتِحَن صدق إيمانها ويقينها بأنّ الصبر مفتاح الفرج وهو الحل الوحيد لكلّ الأزمات والمشاكل التي قد تواجه الإنسان في الدنيا، فتمسكوا بحبل الله فلن تخيبوا أبدا.

 

 

هل اعجبك الموضوع :
author-img
الصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

تعليقات

التنقل السريع