القائمة الرئيسية

الصفحات


الديـــنار والسّــاحر


الدينار والساحر


قصة "الدينار والسّاحر" هي قصة مستوحاة من التراث التونسي تناقلها الأجداد -رحمهم الله- إلى أن وصلت إلينا لعلّنا نستخلص منها العبر والحكمة وقد تكون ناجعة في حياتنا نسلّط فيها الضوء عن ذكاء المرأة وفطنتها في مساعدة النّاس وخاصة كبار السنّ المخضرمين. 


لمحة عن حياة العجوز

تدور أحداث قصتنا حول امرأة مسنّة تناساها الزّمن وتتالت عليها السنّون فلا يُعرف لها سنٌّ محدّد، ربّما تناهز السبعين من عمرها أو أنّها تخطت عتبة الثمانينات، مع تلك التجاعيد التي غزت وجهها النحيف وحفرت الشقوق فيه بعمق فغارت الخدود وتقلص الجلد وجفّ وبرزت عظامها، علت رأسها كومة من الشعر الأبيض المنكوش تتخلّله فراغات مبيّنة فروة رأسها بوضوح.

كانت تعيش وحيدة في منزلها المتداعي، فقد توّفي رفيق دربها وتزوّج أبناءها وسكنوا مناطق بعيدة وانشغلوا بحياتهم فكانت زياراتهم متقطعة ومتباعدة بالكاد تُذكر، وكانت تستأنس بالذهاب إلى جاراتها تتجاذب معهنّ أطراف الحديث وتتقاسم معهنّ ما تيسّر من طعام.

كانت العجوز ذات الظهر المنحي تتمتّع بالنشاط وكثرة الحركة وكأنّها تُعاند الزّمن وتمنعه من نهش جسدها أكثر، وفي إحدى الأيّام بينما كانت منهمكة في ترتيب منزلها القديم كعادتها أحسّت بشيء تحت الحصير البالي فرفعته وإذ بها تجد دينارا. 
غمرها الفرح الشديد – كفرح الطفل بالهديّة – فانتعش وجهها مع تلك الإبتسامة التي علت محيّاها ثمّ حمدت الله حمدا كثيرا على هذا الرزق الذّي ساقه إليها وفكّرت كثيرا كيف ستنفق كنزها البسيط وأخذت تحدّث نفسها قائلة: 

ترى هل أشتري به سمكًا أشويه، أو لحمًا أُشبع به جوع بطني.

 

رحلة العجوز في الجزيرة

غاصت في التفكير عميقا وأخيرا قرّرت أن تصرف هذا المال للقيام بنزهة قصيرة لتروّح عن نفسها قليلا أفضل من إنفاقه على الأكل ليقينها بأنّ الله سيرزقها وتوجّهت صوب شاطئ البحر، وهناك طلبت من أحد البحّارة بأن يأخذها في جولة على متن قاربه الصغير مقابل الدينار الذي وجدته في منزلها. 

وافق البّحار وساعدها على الصعود في القارب وجاب بها الشاطئ طولا وعرضا لساعاتٍ تجاذبَا خلالها أطراف الحديث عن حال الدنيا ومشاغبها إلى أن رسَا بها على شطّ جزيرة "جربة" القابعة جنوب شرق البلاد، نزلت العجوز وأخذت تجوب أنهجها نهجًا نهجًا مندهشة لجمال البنيان وبروج المراقبة المنتشرة على كامل شواطئها تمتّع ناظريها بجمال الجزيرة الخلاب إلى أن أعياها التعب فوقفت أمام منزل كبير وجميل يّدل على ترف أصحابه.

طرقت الباب لتأكدها من عدم طردها، ففُـتِح لها ورحّبوا بها ترحيـبًا كثيرا لِعِلْمِهم بأهميّة الضّيف – فهو ينزل برزقه ويرتحل بذنوب أهله - فكيف لا يرحّبون بالضيف والضيف ضيف الله فالبيت الذّي يكثر فيه الضّيوف هو مجلبة للخير والبركة. 

دلفت العجوز مسرعة وجلست في فناء "الحُوش" تلتقط أنفاسها المتلاحقة، فلاحظت الحزن في عيني صاحبة المنزل بالرغم من إبتسامتها الخافتة، كانت العجوز تتميّز بالفطنة التّي اكتسبتها من تجارب الحياة فغلبها الفضول ودفعها للسؤال عن سبب حزنها، فأخبرتها ربّة المنزل عن حال ابنتها المريضة التّي حيّرت الحكماء في علاجها.

أصرّت العجوز على رؤية الفتاة فحزنت لحالها ولما آلت إليه من ذبول - وبالرغم من شحوب وجهها ظَـلّ جمالها طاغيًا- فرقّ قلبها خاصّة عندما أخذت الفتاة في الصراخ وتقطيع شعرها وشقّ ثوبها فور رؤيتها لأيّ شخصِ يدلف غرفتها، فأقفلت العجوز الباب وهي مذهولة بما رأته وطلبت من الأم إخبارها بقصّتها كاملة لعلّها تستطيع تقديم المساعدة.

أخذت الأم تروي للعجوز قصة ابنتها بقلب موجوع وصوت ذا غصّة ودموع حارقة وأخبرتها بأنّ ابن عمّها هو من أوصلها إلى هذه الحال عندما تقدّم لخطبتها فقُوبل بالرّفض لشذوذ سلوكه فغضب غضبًا شديدا إذ لم يتوقّع منها الرفض ولجأ إلى أحد المشعوذين وقام بسحرها وتباهى بفعله ولم يُنكره، ومنذ ذلك الوقت والفتاة طريحة الفراش دائمة الصّياح والهيجان فلم يترك والدها حكيما أو شيخا أو ساحرا إلا وطرق بابه دون جدوى، فقد حاروا في أمرها ولم يجدوا لها مخرجا والتمسوا لها الدّعاء بالشّـفاء من الله.


حيـلة العـجوز

أشفقت العجوز على البنت المسكينة وأمّها المجروحة فوعدتها بالمسّاعدة وطلبت منهم أن تَـبيتَ عندهم الليلة، لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا، وأن لا يقطعوا الأمل، ومع بزوغ الفجر استيقظت العجوز وأدّت فرضها وسبّحت الله تسبيحا بأناملها المجعّدة ودعته في خشوع وختمت دعائها بالصلاة والسّلام على رسول الله، واكتفت بأكل ما تيسّر من تمرات وشرب كأس لبن وقطعة خبز من شعير رغم إلحاح صاحبة المنزل التّي اجتهدت في تحضير سفرة لا تليق إلا بالملوك.

بعد الإنتهاء من الطعام وحمد الله بإدامة هذه النّعمة عليهم طلبت من الأم أن تدلّها على منزل عديلها (أخ الزوج)، فرفضت بادئ الأمر لكّنها استسلمت أمام إصرار العجوز، فلم تتكاسل هذه الأخيرة والْـتَحفَت بلحافها الأبيض المطرّز متّجهة صوب العنوان المذكور وهنالك اختبأت خلف شجرة وظلّت تراقب من بعيد لعلّها ترى ذاك الشّاب الخبيث.

بعد برهة من الزّمن، رأت شابا قويّ البنية يدلف داخل المنزل فعلمت بأنّه ضالتها المنشودة - فهو وحيد أبويه حسب علمها - فأسرعت وطرقت الباب وأخذت تلهث بشدّة متظاهرة بالتعب والإعياء، ارتعب الشّاب من سوء حالها وسألها عن حاجتها فأخبرته بأنّها كانت في السّوق لإحضار بعض المشتريات لكنّ التعب أنهكها لكبر سنّها ووهن عظمها وطلبت منه القليل من الماء حتى تطفئ ظمأها.


نهاية السّـاحر وانتصار العجوز

طلب منها أهل المنزل أن تبقى عندهم والقيام بواجب الضيافة لكنّها رفضت وتعللت بأنّها على عجلة من أمرها فهي مدعوّة لحضور حفل زفاف إحدى الفتيات (وتعمّدت ذكر اسم الفتاة ونسبها) فاندهش الشّاب وأعلم العجوز بأنّها ربّما أخطأت في ذكر الإسم لأنّ تلك الفتاة هي طريحة الفراش منذ مدّة طويلة، ابتسمت العجوز في مكر وأخبرته بأنّ الله شافاها عن طريق أحد الشّيوخ وهناك من تقدّم لخطبتها وتوجّب عليها الذّهاب لمشاركتهم الفرح ثم استأذنت بالخروج بعد ما شكرتهم عن لطفهم وحسن ضيافتهم.

عاودت العجوز الإختباء خلف ذات الشّجرة لمراقبة ما قد يحدث ولم تمضي سوى دقائق معدودة وإذ بالشّاب يخرج مسرعا والشّرر يتطاير من عينيه وسلك طريق بيت السّاحر الذّي ساعده في إلحاق الضّرر بابنة العمّ المسكينة، لاحقته العجوز بخطواتها الثّـقيلة فرأته ماسكا برقبة المشعوذ بقوّة يتهدّد ويتوعّد بإيذائه لأنّه كذب واحتال عليه وأنّ سحره لم ينفع إلى أن أرْداه قـتيلا وإخفاق الجيران في التفريق بينهما.

رسمت العجوز ابتسامة النّصر على وجهها وهمهمت قائلة:

مات السّاحر وبطل مفعول السّحر بإذن الله

ثمّ حثّت الخطى عائدة إلى منزل الفتاة كأنّها تطوي الأرض طيّا لِتسُوق لهم البشرى وطلبت منهم تفـقّد الفتاة فوجدوها في حال أفضل من ذي قبل فقد كانت هادئة وعلى شفتيها ابتسامة رقيقة، فهي لم تصرخ عندما دخلوا غرفتها كعادتها، كانوا مذهولين فمنذ دقائق كانت طريحة الفراش أمّا الآن هاهي أمامهم تحاول الوقوف على ساقيها فاتحة ذراعيها لمعانقة أمّها الحنون - التّي لم تتردّد في تلبية طلبها فكم كانت مشتاقة لمثل هذا الحضن وطال العناق مرفوقا بدموع الفرح - فسبحان الله مغيّر الأحوال.

تعالت الزغاريد وعمّ الفرح ودبتّ الحياة إلى المنزل من جديد شاكرين فضل الله، متسائلين عن سرّ هذا التغيّر وماذا فعلت العجوز حتّى بطل السّحر وشفيت الفتاة من سقمها، فأجابتهم بعبارات عميقة تدّل على حنكتها وحسن تصرّفها قائلة: 

من بنى حائطا للشّر سقط عليه، ومن أكل مالا حراما لن يبارك له الله فيه، ومن تدثّر بلباس الغير بات عُـريانا، ومن ظلم بِـنـتًا قضى بقيّة حياته نادما.

 

ثمّ قصّت عليهم الخطّة التّي اعتمدتها للإيقاع بهذا الظالم وفضحت أمره وأخبرتهم بأنّ مفعول السّحر يُـبطل أو يزول بموت صاحبه (المشّعوذ) فلن يُـفلح السّاحر حيث أتى، لذلك شُـفيت ابنتهم وعادت إلى طبيعتها السّابقة مفعمة بالحياة كأنّ شيئا لم يكن، فشكرها أهل المنزل وأعجبوا بفطنتها وأرادوا مكافأتها بالمال والذّهب وألّحوا عليها المكوث عندهم وأن تكون فردا منهم لكنّها رفضت طلبهم بكلّ لطف واكتفت بأخذ دينارٍ واحد فقط كأجرة القارب الذّي سيمكّنها من العودة إلى منزلها المتداعي. 

كم كانت فرحتها عارمة عندما حطّت الرّحال ولامست قدماها رمل الشّاطئ – أين مسقط رأسها - مودّعة تلك الجزيرة الجميلة وأهلها الطيّبون الذّين تعرّفت عليهم بسبب تلك القطعة النقدية (الدينار) التّي جعلها الله سببًا لإنقاذ تلك الفتاة المسكينة وأن تعيد إلى أهلها بهجتهم المسلوبة، وفي النّهاية لا يسعنا إلاّ أن ندعو الله بأن يبطل كلّ سحر وأن يُـشفي كلّ مسحور ونعوذ به من شرّ الحاسدين ومن شرّ السّاحرين والشّياطين.

 

 

 


هل اعجبك الموضوع :
author-img
الصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

تعليقات

التنقل السريع