توبــة مـــالك بن ديــنار

تخيّل معي لو أنّنا لا
نُذنب ولا نعصي الله، تخيّل معي لو أنّنا لا نصنع الكبائر، تخيّل معي أنّ
دُنْيَانَا خالية من الآثام، فنحن لَسْنا ملائكة معصومين عن الخطأ بل نحن بشرٌ
نُخطئ ونُصيب، نُذنب ويُغفر لنا شريطة أن نستغفر ونتوب إلى الله.
ما أهميّة التوبة في
حياتنا؟
وما قصة توبة مالك بن
دينار؟
تعــاظم الذنـــوب
تُـعدُّ الحياة دار
امتحان، فهي لا تخلو من الذنوب والمعاصي ولا تستقيم بدونها لأنّه
ببساطة كُـلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءْ، المهمّ في الأمر أن لا يتمادى الإنسان في خطأه
وأن لا يطغى بل يجب أن يُحسن الظنّ في الله.
أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي
فاُسمعْ
إلى رحمة ربّك.. استمع إلى الذّي يُحدّثك ويُخاطبك.. استمع للذّي يُرسل إليك هذه
الكلمات.. إنّه قـيُّومِ السّماوات والأرض.. الله بجلالته وعظمة سلطانه يقول لمن
أتاه تائبًا.
وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً
فالله
يحثّنا على العودة إليه وطَرْق باب التوبة - قبل أن يُغلق - في أيّ
وقت شِئْنا وأنّه سيغفر ذنوبنا مَهْمَا عظُمت.. حتّى وإن جئتَ بملءِ
الأرض ذنوبًا أو بملء الأرض معاصي ثمّ جِئتَ تائبًا عابدًا
عائدًا إلى الله لأتاكَ الله بِمِلء الأرض حُبًّا وتوبةً منه جلّ في
عُلاه.
يَا ابْنَ آدَم، إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِي وَرَجَوتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلاَ أُبُالِي… يَا ابْنَ آدَمَ لَو أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيْتَنِي لاَ تُشْرِك بِي شَيْئَاً لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغفِرَة.
فأَبْشِرْ
يا أبن آدم يا من تُخطئ بالليل والنّهار.. أَبْشِرْ، فأنتَ تتعامل مع التّواب الرّحيم
فقد أخبرنا النبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - أنّ الله يفرح بتوبةِ عَبده
أكثر من فرحة رجل كان مع ناقـته وعليها زادَه وطعامه فجاء إلى أرض فَلاةٍ.. إلى
أرضٍ قَـفْرٍ، فنام فيها.. ولمّا استيقظ لم يجد راحلته ولا زاده ولا طعامه فعَلِم
أنّه هالكٌ لا مَحَالة وأيِسَ من عودة بَعيره وبقي ينتظر موته، وبينما هو متكئ فإذا
به يرى راحلته ويرى شرابه وطعامه، فأسرع وأمسكَ بخِطامِ ناقته ومن شدّة فرحه أخطأ
في القول:
الْـلَّهُمَ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ
هذه الفرحة
العارمة لا تُضاهي فرحة الله بتوبة عبده.. والله أشدّ فرحًا بِعودتي وعَودتِك
وتَوْبتي وتَوبَـتك ورُجوعي ورُجوعك وأَوْبتي وأَوْبتك إليه من فرحة هذا الرجل، فَكُـلّنا
جُبِلْنا على الخطأ وعلى المعاصي.. فمن ذا الذّي لا يعصي، ومن ذا
الذّي لا يُذنب.. ومن ذا الذّي لا يصنع الكبائر ولكن من ذا الذّي يعود إلى
الله، ومن ذا الذّي يقف على باب الله ويطرقه، ومن ذا الذي تنْزِل دموعه ندمًا
وألمًا على ما مضى، ومن ذا الذّي يُخاطب نفسه فيقول كَفَى يا نَـفْسُ ما كانَ..
كفاكِ هوًى وعِصيانًا.
توبة مالك بن دينار
وحول
هذا الموضوع (التوبة) تتمحور قصّة مالك بن دينار - أحد التّابعين - الذّي
عاش في زمن ابن عبّاس رضي الله عنه، قصة توبة عَلَمُ العلماء وأَعْلَمهم،
قصة يتّعظ منها كلّ من أذنبَ وأَيِسَ من رحمة ربّه، قصة تُزيل شكوك من كَثُرت
ذنوبه (من خمرٍ وسرقةٍ ورِبَا وعقوق الوالدين) وأنّ الله سيغفر كلّ تلك الآثام
رغم أنْـفِي وأَنْـفِك.. فالله لا يَمَـلُّ من المغفرة لِعبده حتّى يَـمَلّ
ابن آدم.
كان مالك
بن دينار سِكِّيرًا وقاطعًا للطريق (من قُطّاع الطُرق) حتّى أنّ النّاس صاروا يخشون مُلاقاته
خوفًا من بطشه وكثرة ذنوبه فهو لم يترك معصية إلاَّ وَفَعلها، وعندما تزوّج
رزقه الله طفلة شُغِف بها وتعلّق قلبه بها، ولمّا بلغت السَّنَتَيْن كانت تُـزيح
من يده الخمر وكأنّها رسالة من الله لكنّه لم يتّعظ وواصل مُـتْعَتَه.
تغيّرت
حياة مالك بن دينار
عندما فَـقَدَ ابنته - وهي في الثالثة من عمرها - فحزن على فراقها وأغواه
الشيطان أن يَسْكِر ليلة وفاتها، ومن شدّة سُكْرِه داهمه النّوم، فإذا بالأحلام تُغرقه..
وإذا به يرى في حلمه أنّه يوم القيامة وأنّ الأرض قد زٌلزلت وأنّ القبور قد بُعْثِرَ
ما فيها وحُصِّلَ ما في الصّدور، فخرج النّاس لِـلِقاء ربّ العالمين.
وإذا
بالمُنادي يُنادي النّاس فُرادَى للوقوف بين يديْ الله والعرضِ على الرّحمان، ثمّ
نُوديَ باُسمه (مالك بن دينار) فلمّا وقف لِلْحسّاب اختفى الجميع
فجأة ووجد نفسه وحيدا وإذْ بثعبانٍ ضخمٍ يتّجه نحوه ليأكله فَهرِب منه حتّى اُلْـتقى
برجلٍ ضعيفٍ اُستنجد به فلم يساعده لِوَهَن جسمه لكنّه أشار إليه أن يَسلك طريقًا
معيّنا لعلّه ينجو من ذاك الثعبان.
مضى مالك راكضًا حيث أخبره العجوز وإذا
به على شَفِيرِ جهنّم، فَـفَزِع لِهوْل مظهرها وعاد أدراجه إلى الرجل المسنّ - والثعبان
لا يزال خلفه ولا يَكُفُّ عن ملاحقته - واُستنجد به مرّة أخرى، فبكى العجوز
رأفةً على حال مالك وأشار إليه بأن يلجأ إلى الجبل لعلّه ينجو، فركض مالك
نحو الجبل والثعبان خلفه فاتحًا فَاهُ حتّى رأى مجموعة أطفال يلعبون وسمعهم يُـنادون
عن ابنته فاطمة.
يا فاطمة ارْكُضي وأَدركي أباكِ
جاءت
ابنته فاطمة، جاءت ملاك الرحمة - الطفلة الصغيرة ذات الثلاث سنوات التّي فَقَدها
- فضربت الثعبان بيدها وأبعدته وأنقذت أباها فحملها كما كان يحملها قبل موتها
وأجلسها في حِجْرِه كما كان يُجلسها في الدّنيا، فنظرت إليه وضربت على لِحْـيَـته
قائلة:
يَا أَبَتِي أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ
يا من
تركتَ الصلاة، أَلَمْ يأْنِ للذّين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله.. يا من
عقَقْتَ أمّكَ وأباك، أَلَمْ يأْنِ للذّين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله..
يا من تعاملتَ بالرِّبا آناء اللّيل وأطراف النّهار، أَلَمْ يأْنِ للذّين آمنوا أن
تخشع قلوبهم لذكر الله.. يا من تصنع الكبائر ولا تُبالي، أَلَمْ يأْنِ
للذّين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله.. يا من قطّعتَ رَحِمَكَ وسلَبْتَ
حقوق النّاس وتطاولتَ على جيرانك، أَلَمْ يأْنِ للذّين آمنوا أن تخشع قلوبهم
لذكر الله.. يا من أكلتَ حرامًا وأطعمْتَ أبناءك الحرام ليلَ نهار، أَلَمْ يأْنِ
للذّين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله.
آنَ واللهِ آنْ
كلماتٌ نطقها
مالك مُعلنًا عن توبته، ثمّ سأل ابنته عن ماهيّة ذلك الثعبان،
فأخبرته بأنّه عمله السيئّ الذي نمّاه لكثرة ذنوبه حتّى كاد أن يُهلكه،
وأمّا ذاك العجوز فهو عمله الصالح الذي لم يستطع إنقاذه لقلّة حسناته..
استيقظ مالك واغتسل ثمّ ذهب إلى صلاة الفجر وإذا بالإمام يقرأ
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ
بـــاب التوبــــة
تاب مالك بن
دينار - عَلَمُ العلماء وأَعْلَمهم - توبةً
نصوحًا، وفي توبته رسالة لنا تدعون لعدم اليأس من مغفرة الله حتّى لو
غرقنا في بحر من الذنوب ما دام لنا ربّ رحيم.. فلا تقنطوا من
رحمته لأنّه يغفر الذنوب جميعا.
فَعُدْ وتُبْ إلى الله مثل توبة مالك بن دينار ولا تتردّد حتّى
لو أذنبت ألف مرة.. فالله لم يطرد أحدا قط وقف على بابه.. الله لا
يطرد عباده لأنّه أرحم بك من أٌمّك، فهو من خلقنا وخَلق أنفسنا وهو يعلم بأنّنا سوف
نُـذنب لطبيعة خَلْقِنا.
لذلك يتنزّل
الله من السّماء السابعة إلى السّماء الدُّنيا رحمةً بنا ليستجيب لِنِدائِنا..
الله بعظمته - جلّ في عُلاه - يتنزّل كلّ ليلة لأجل أن يسأل عباده! هل رأيتَ
ملِكًا يقف أمام مملوكٍ له ويسأله حاجته.. مستحيل.
لكنّ مالك
الملوك -الله سبحانه - هو من يسألنا حاجاتنا وهو الغنيّ عنّا، فحتّى إن عصيناه آلاف
المرّات فلن تضرّه معاصينا شيء.. حتّى لو عبدناه حقّ عبادته لن تنفعه
عبادتنا شيء لأنّه غنيّ عنّا.. غنيٌّ عن معاصينا وعن عبادتنا ولكنّه رحيم بنا، ودودٌ
بأرواحنا، توّابٌ لذنوبنا.
في الأصل
نحن الذيّن بحاجة إلى رحمته.. فنحن من نغتاب وننُّم ونتخلّف عن الصلوات.. نحن أهل
المعاصي والذنوب لذلك نحن بحاجة لنسأل الله.. تخيّل أنّ مَلِكًا أو وزيرًا أو
مسئولاً في الدولة أرسل لك برقيّةً يسألك حاجتك.. وتخيّل مدى الفرحة التّي ستغمرك
لأنّه جاء من سيحققّ طلباتك.
فما بالك
بالله.. الله يسألك لكن أين أنتَ؟ وأين نحن؟ وأين النّاس؟.. مَالِكُ السّموات
والأرض - الله - لا يسألك حاجتك مرّة في السنة أو مرّة في العمر، بل يسألك كلّ
ليلة لأنّه يعلم بأنّ الذنوب ستُتْعِبنا في النّهار وكأنّه يقول لنا تعالوا
أُرِيحكم بالليل.
أليس هو
الذّي يبسط يده في الليل ِليتوب مُسيء النّهار.. أليس هو الذّي يبسط يده في
النّهار لِيتوب مسيء الليل، يَا من أسأت في الليل أبْشِر بالنّهار.. ويا من
أسأْت في النّهار أبْشِر بالليل فالله دائما معك.. فَعُدْ إليه واطرق
بابه.. الله ينادينا كلّ ليلة قائلا:
هل من تائب فأتوب عليه.. هل من مستغفر فأغفر له.. هل من طالب حاجة فأقضيها له
متى آخر
مَرّة أجبنا فيها ربّنا وأجبنا هذه الأسئلة، إلى كل من يُريد الرزق والزواج أو من
يُريد العمل والشِّفاء أو أيّ حاجة من حاجات الدّنيا… ها هو الله - هذا العظيم -
يُنادينا ليقضي حوائجنا، أَلَيْسَ من المٌخجِل أن ننام والله يسألْ!.. أَلَيْسَ من
المُعيب أن نبقى على هواتفنا طوال الليل والله يسألْ!
الخلاصــة
سنندم
على كلّ ساعة مرّت علينا في حياتنا.. واللهِ سنندم، فإذا كان أهل الجنّة - بعد
دخولهم الجنّة - يتحسّرون رغم أنّهم سَكنوا القصور وزُوّجوا من الحور العين وأخذوا
من النّعيم ما أخذوا ثمّ يتحسّرون..
فَمَا
تحسّرَ أهل الجنّة على شيء إلاَّ على ساعة مرّتْ لم يذكروا فيها الله، فَمَا بالُكَ
بنا نحن فَكَم من السّاعات تمضي علينا ونَنْسى ذِكر الله.. فكيف بـأهل المعاصي
والذنوب؟!
أَمَا آنَ
لنا أن نعود وأن نتوب!.. أَمَا
آنَ لنا أن نصطلح مع الله!.. أَمَا آنَ لنا أن نُجدّد رجوعنا إلى الله!.. واُعلموا
جيّدًا أنّ الله لن يردّكم لذلك اجْعَلٌوا شِعَاركمْ
عائدون إلى الله ولو أذنبنا.
عائدون إلى الله ولو عصينا.
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا لمشاركتنا الرأي وتشجيعنا على الإستمرار.